القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة بعنوان " يوم هربت من زوجي"

فتاة


هربت من زوجي :


يوم هربتُ مِن زوجي، لم أستطع أن آخذ معي شيئًا سوى الملابس التي كنتُ أرتديها، وأوراقي الثبوتيّة والحلى القليلة التي ورَثتُها مِن أمّي رحمها الله والتي لم تكن تكفي، لو أرَدتُ بيعها، لأسبوع أو اثنَين. ولكنّني لم أكن أفكّر سوى بأمر واحد، وهو الابتعاد وبسرعة عن الوحش الذي تزوّجتُه والأفعى أمّه. كانا قد قلبا حياتي إلى جحيم، عالِمَين تمام العلم أن ليس لدَيّ أحدًا أشكو له سوء معاملتهما لي. وكَم كان بعيد اليوم الذي وقعتُ بحب شاب خلتُه فارس أحلامي.
الذنب لم يكن ذنبي، فلقد أراني بسّام وجهًا جميلاً لشخصيّة مريضة، وبقيَ يُعاملني بلطف وحنان حتى داسَت رجلايَ عتبة داره وأمّه. وفي تلك اللحظة بالذات تغيّرَت حياتي، واكتشَفتُ بشاعة لم أتصوّرها موجودة إلاّ في الأفلام والقصص.
صحيح أنّني كنتُ يتيمة، ولكنّني تربَّيتُ مع جدّتي الحنونة والخلوقة التي نسيَت أن تخبرَني عن قباحة العالم الخارجي بعدما عمِلَت جهدها لإبقائي إلى جانبها. فباستثناء ذهابي إلى المدرسة، لم أخرج إلى أيّ مكان إلاّ برفقتها، الأمر الذي كان يحصل نادرًا. لِذا لم أختبر الحياة، وعندما تعرّفتُ إلى بسّام حين كنتُ في المشفى أنتظر خروج جدّتي مِن غرفة الجراحة، ظنَنتُ أنّه رجل شهم ونزيه. أعطاني رقم هاتفه وطَلَب منّي أن أتصل به. ولكنّني لم أفعل، لأنّ حالة جدّتي ساءَت بشكل سريع وخطير وتوفّيَت بعد أقلّ مِن شهر.
وعندما وجَدتُ نفسي وحيدة ويائسة، تذكّرتُ ذلك الشاب اللطيف، أو بالأحرى الشاب الوحيد الذي وجَّهَ إليّ الكلام خلال أوّل 18 سنة مِن حياتي.
وبعد أقلّ مِن شهرَين، قلتُ نعم لبسّام عندما طلَبَ منّي أن أتزوّجه. قبِلتُ أن أعيش مع والدته، آملةً أن أجد فيها حنان الأم الذي افتقَدتُه. لكنّها كانت عديمة الشفقة مثل ابنها لا بل أكثر منه، وكلّ ما كانت تريده هو جلب فتاة تنجب الأولاد وتقوم بالأعمال المنزليّة وبالترفيه عن ابنها جنسيًّا. وهكذا دخلتُ عالم الكرَه والأذى والأنانيّة.

في ذلك البيت، رأيتُ وذقتُ الشتم والضرب، ولاحقًا الاغتصاب والتعب وتمنَّيتُ مرارًا أن أموت. ألم يكن موت والديّ وجدّتي كافيًا؟ ألم أكن أستحقّ أن أذوق طعم الطمأنينة والحب؟
وبعد خمس سنوات على هذا النحو، وبعدما يئسَ بسّام مِن أن يرى ولدًا منّي، قرَّرَ التفتيش عن غيري وتركَني كخادمة لأمّه. لم يرحل مِن البيت، بل قرَّرَ أن يأتي بزوجة ثانية لأخدمها هي الأخرى حتى تتفرّغ للإنجاب. للحقيقة كنتُ ارتحَتُ مِن زوجي وممارساته الجنسيّة البشعة معي، ولم أحسد التي كانت ستأخذ مكاني. لم أخَف مِن العمل الشاق بعدما تعوّدتُ النهوض باكرًا والقيام بكلّ شيء إلى أن أخلد إلى النوم بعد الجميع، وتمنَيتُ أن تكون زوجة بسّام لطيفة معي وتصبح يومًا صديقتي.

ولكنّني كنتُ مخطئة. فبعد أن أشمأزّ زوجي مِن طبعي الهادئ والمسالم، إختار زوجة لا تشبهني بشيء. وعندما دخَلَت رُبى المنزل ورأتني، ضحِكَت وقالَت: "ماهذا الشيء التعيس؟" وأخذَت بسّام إلى غرفة النوم لتُريه الفرق بيني وبينها.
وصارَت حياتي أبشع ممّا سبق وبتُّ أقضي أيّامي أبكي وأتمنّى الموت. وكلّما زاد حزني، كلّما زادوا هم مِن قهري.
لا أدري ما كان سيحصل لي لولا وجود جمال. كان ذلك الشاب يعمل في شركة مقرّها بمواجهة بيتنا، وكان يخرج إلى الشرفة مرّات عديدة خلال النهار ليشرب سيجارته.
إلتقَت عينانا ذات يوم عندما كنتُ انظّف زجاج الصالون. إبتَسَم لي فأدَرتُ وجهي بسرعة، أوّلاً خجلاً، وثانيًا خوفًا مِن أن تراني حماتي أو رُبى. ثمّ رأيتُه بعد أيّام. عندها لم أدِر وجهي ولكنّني لم أردّ له الابتسامة، بل بقيتُ أنظر إليه.
كان وسيمًا وأنيقًا ويُبدي اهتمامًا واضحًا بي. كنتُ امرأة جميلة، ولكن لم يسبَق لأحد أن قال لي ذلك، خاصّة أنّ زوجي كان يجدني قبيحة.
وأصبحتُ أعرف متى يخرج جمال إلى الشرفة فأركض لأنظّف أيّ شيء في الصالون لأتفرّج عليه وهو يبتسم. كانت له ابتسامة مشرقة مِن تلك التي تبعث الدّفء في القلوب. وصارَت أحزاني أخفّ عليّ، ولم أعد أكترث كثيرًا للاهانات التي كانت تنصبّ عليّ مِن كل جانب، فقد كان لدَيّ معجب.
وذات نهار رأيتُ جمال حاملاً مسطرة طويلة يُلوّح بها باتجاهي. وفهمتُ بعد دقائق أنّه يرسم في الهواء رقم هاتفه. وبعد محاولات عديدة، إستطَعتُ حفظ الرقم ولكنّني بالطبع لم أكن قادرة على الاتصال به بسبب وجود العقربَتَين. وعندما عاد جمال إلى الشرفة في اليوم التالي، أخَذَ يومي لي بإشارات استفساريّة: كان يسألني لماذا لم أتصل به. عندها أشَرتُ إلى خاتم الزواج، فتغيّرَت ملامحه لتمسي حزينة. وقبل أن يعود إلى عمله، أشَرتُ إليه أنّني لا أحب زوجي وأنّه يضربني. وغضِبَ كثيرًا، وعاد يطلب منّي أن أحاول الاتصال به.

وشاءَت الأقدار أن تخرج حماتي وكنّتها الثانية مِن البيت بقصد زيارة الأصدقاء. وبالطبع لم تأخذاني معهما، لأنّ الخروج إلى أيّ مكان كان ممنوعًا عليّ. واغتنَمتُ الفرصة واتصلتُ بجمال. كان قلبي يدّق بسرعة فائقة، إلى درجة أنّني لم أستطع الكلام إلاّ بعد ثوانٍ لأقول له:
ـ هذه أنا... ليس لدَيّ الكثير مِن الوقت... بسرعة أرجوك!
ـ ما اسمكِ؟
ـ ردَينة.
ـ ردَينة... أنا جمال... ما الأمر؟ ماذا يحصل معكِ في ذلك البيت؟ أخبريني!
ورويتُ له ببضع جمَل ما أعاني منه، وبدأتُ أبكي وأشهق إلى أن قال لي:
ـ توقّفي أرجوكِ! لم أعد أفهم ما تقولينه! حسنًا... لا تخاطري بالاتصال إلا حين تكونين متأكّدة مِن الوضع، لا أريد إقحامكِ في متاعب إضافيّة، فما تعانين منه يكفيكِ... إعلمي فقط أنّني هنا... بالقرب منكِ وأنّني لن أتخلّى عنكِ... قولي لي إنّكِ واثقة مِن ذلك.
ـ أنا واثقة مِن ذلك.
لم أكن أكذب، فقد كنتُ فعلاً أؤمِن بأنّ ذلك الشاب لن يتخلّى عنّي، بالرّغم مِن أنّني لم أكن أعرف عنه شيئًا سوى أسمه.
وبقينا نرى بعضنا مِن بعيد وكان ذلك كافيًا لأشعر بالاطمئنان.
ولكن ذات يوم، رأتني رُبى وأنا أومي لجمال مِن خلف شبّاك الصالون، فاشتكَتني إلى بسّام الذي أبرَحَني ضربًا. خلتُ حقًّا أنّني سأموت تحت يدَيه ورجلَيه لولا تدخّل أمّه التي صَرَخَت به: "ستقتلها! ماذا تريدنا أن نفعل بالجثّة يا ذكي؟". نَظَرَ بسّام إليّ بحقد فظيع، ليس لأنّني أعرف سواه بل لأنّني تجرّأتُ على العصيان ولو مِن خلف شبّاك.
وخَرَجَ بسرعة مِن البيت، وعبَرَ الطريق ليُسوّي أموره مع مَن سمّاه الـ "عشيق". وحين عادَ قال لي مستهزئًا: "لن ترَيه مجدّدًا... هذا وعدٌ".
وبالفعل لم أعد أرى جمال، وامتلأ قلبي بالحزن لأنّه لم يوفِ بوعده لي. لازمتُ السرير مدّة طويلة بسبب كدماتي البليغة وبسبب تعاستي العميقة، ولم يطلب أحد منّي النهوض للقيام بواجباتي لأنّهم خافوا أن أموت وأورّطهم بمشاكل مع الشرطة.
وبعد حوالي الأسبوع، حين جاء الولَد الذي يأتي لنا بالحاجيات مِن عند البقّال، وضَعَ في يَدي ورقة مطويّة وأسرَعَ بالذهاب.
دخلتُ المطبخ وقرأتُ ما كان مكتوبًا عليها:
ـ سأنتظركِ كلّ ليلة عند آخر الشارع... كلّ ليلة... حتى لو لزِمَ الأمر أن أنتظر طوال حياتي... لن أتخلّى عنكِ... لا تأخذي معكِ إلا اللازم واحترسي، أرجوكِ.
وفي لحظة واحدة، عادَ إليّ الأمل بالحياة والبشريّة وأخَذتُ انتظر الوقت المناسب للهروب مِن سجني. راقبتُ كلّ ما يجري ومتى، أين يتواجد سكّان البيت في كلّ ساعة مِن المساء والليل، إلى حين وجدتُ أخيرًا الفرصة المناسبة.
حَدَثَ ذلك وسط الليل حين كانوا نائمين. كنتُ قد ارتدَيتُ قميص نومي فوق ثيابي، ووضعتُ أغراضي في جيوبي كي لا أضيّع أيّة ثانية. ومشيتُ على رأس قدَمَيَّ حتى الباب. كان نفَسي ثقيلاً إلى درجة أنّني خفتُ أن يسمعه أحد. أدَرتُ مفتاح الباب ببطء وفتحتُه على مهل. خلتُ أنّ الوقت كان قد توقّف لكثرة خوفي. وحين أصبحتُ خارج الشقّة بدأتُ أركض كالمجنونة. لم أنظر ورائي خوفًا أن يكون أحدٌ قد سمعَني ولحِقَ بي. ركضتُ وأنا أصلّي كي أجد جمال بانتظاري وإلا وقَعتُ في ورطة مخيفة.
وصَلتُ إلى آخر الشارع ربما بغضون ثوانٍ خلتُها ساعات.
ولكن ماوجدته بإنتظاري هناك ڜئ يقف من هوله القلب وتقشعر له الأبدان!!
ولكنّني لم أجد سوى الظلمة الحالكة وبعض القطط قرب القمامة. توقّفَ قلبي عن الخفقان، وشعرتُ بأنّني سأقع أرضًا حين شعرتُ بيدِ تمسكني بقوّة وسمعت صوتًا يقول لي:
ـ أنا هنا... لا تخافي.
الجزء الثاني والأخير كما وعدتكم
هربتُ مِن زوجي ليلًا
... وتعانقنا مطوّلا ولم أكن أريد افلاته خوفًا مِن أن يكون جمال طيفًا اختلَقَته عينايَ مِن الظلمة. ولكنّه كان حقيقيًّا، وأخَذَني بيَدي إلى سيّارته المركونة بعيدًا وقادَ بي بصمت إلى بيت في الجبل. طيلة المسافة بقيتُ أنظر أمامي محاولة استيعاب الذي فعلتُه وكيف أنهَيتُ أخيرًا عذابي. أمّا جمال، فأظنّ أنّه كان يُفكّر بالمسؤوليّة الكبيرة التي حمَّلها لنفسه بخطفي مِن زوجي.
وصلنا إلى ذلك البيت عند طلوع الفجر وكان المكان مظلمًا، ومِن الغبار الذي كان يُغطّي الأثاث، علِمتُ أنّ أحداً لم يسكنه منذ زمن بعيد. وفي تلك الليلة نمتُ لوحدي في سرير قديم وشراشف رطبة.
وفي الصباح الباكر، تمّكنتُ أخيرًا مِن التحدّث إلى حبيبي الذي قال لي:
ـ كنتُ آتي إلى هنا عندما كنتُ صغيرًا وألعب في الحديقة... إنّه منزل جدّي، رحمه الله... ورثتُه منذ سنين قليلة ولم أتصوّر أنّني سأعود إليه اليوم.
ـ هل أنتَ نادم؟
ـ نادم؟ أبدًا يا حبيبتي ردَينة! أنا أسعد رجل في الدنيا! ولكنّني أسأل نفسي عمّا يدور في منزل زوجكِ الآن... فلا بدّ أنّهم اكتشفوا رحيلكِ.
ـ لا يهمنّي الأمر فأنا بعيدة عنهم... أنا معكَ... بأمان.
ـ صحيح... ولكنّهم سيعلمون أنّكِ هربتِ معي... عليّ التفكير بخطّة دفاع متينة... وعليّ العودة بسرعة إلى العمل... هناك طعام وماء في المطبخ داخل أكياس جلبتُها معي... خذي جوّالي فالمكان معزول هنا... سأتصل بكِ بين الحين والآخر... سأعود في المساء.
وقبّلني بحنان وانطلقَ إلى المدينة. كنتُ خائفة ولكن سعيدة في آن واحد، وكي أشغل نفسي بدأتُ أرتّب المكان لنستطيع المكوث فيه.
في تلك الأثناء، عادَ جمال إلى الشركة وتصرّف بشكل طبيعيّ، إلى أن وصَلَ زوجي بسّام وأخَذَ يُهدّده ويدفعه إلى الاعتراف بمكان وجودي. ولكنّ حبيبي بقيَ يُنكر حتى استدعى رجال الأمن فرموا بزوجي خارج الشركة.
وعندما عادَ جمال إلى الجبل في المساء، أخبرَني بالذي حصل، وأخذنا نفكّر جيّدًا بما علينا فعله كي لا يتمّ العثور عليّ.
ولكن لم يخطر ببالنا أنّ بسّام سيطلب الشرطة وسيُقاد حبيبي إلى التحقيق، الأمر الذي سيُسيء إلى سمعته ويُهدّد مركزه في الشركة.
كل ذلك حصل في اليوم التالي، ولكنّ جمال لم يقل لي شيئًا بل قرأته في الرسالة التي تركَها لي قبل أن يرحل، والتي وجَدتُها مع مبلغ مِن المال. كان جمال قد تركَني لوحدي في ذلك البيت المخيف ورحل... عاد إلى حياته بعدما وعَدَني بأنّه لن يتخلّى عنّي أبدًا.
كم بكيتُ؟ أكثر ممّا بكيتُ طوال حياتي، فالهجر والخذلان أصعب مِن الاهانات والضرب.
هل كان جمال جبانًا أم أنّه انجرَفَ بالرومانسيّة ونسيَ أنّه موظّف بسيط يحتاج إلى راتبه ليعيش؟ مهما كان السبب لم أستطع مسامحته، فهو الذي دفَعَني إلى الهروب ووعَدَني بأنّه سيكون على قدر هذه الخطوة الخطيرة. لكنّه لم يصمد أكثر مِن يومَين، وتراجَعَ عن مشروع حبّ كان مِن المفترض أن يدوم العمر كلّه. وأمام ضياعي، تمنَّيتُ لو بقيتُ في بيت زوجي المتوحّش مع أمّه الأفعى وزوجته الماكرة.
لم أخرج مِن البيت لمدّة أسبوع بكامله ولم أفتح شبّاكًا واحدًا. بقيتُ في الظلمة أبكي وأتحسّر وأفكّر بالذي أصابَني. لم أحاول الاتصال بأحد وخاصة جمال، مع أنّني وجَدتُ بقائمة الاتصالات أرقام المكتب والأصدقاء. صحيح أنّني ذقتُ الذلّ عند زوجي، ولكنّني لم أكن مِن اللواتي تتوسّلنَ لأحد. وهو لو أراد العودة لفعَلَ خلال ذلك الأسبوع. حتى اليوم أسأل نفسي كيف استطاع ذلك الرجل ترك امرأة لوحدها في بيت مهجور في أعلى الجبال، وهل لجبن الناس حدود؟
وبعد ذلك الأسبوع الأليم الذي قضَيتُه بالحزن والبكاء، أدرَكتُ أنّ قليل الماء والأكل كانا قد نفذا وكان عليّ إيجاد المزيد، هذا لو أرَدتُ البقاء حيّة.

ومع أنّني كنتُ قد فقدتُ الرغبة بالعيش، إلا أنّ شيئًا بداخلي دفعَني إلى المواصلة: حبّ البقاء. كبِرتُ يتيمة الأبوَين، وعشتُ سنين مع عجوز متعجرفة، وتزوّجتُ مِن طاغٍ وهربتُ مع جبان... كلّ ذلك لم يكسرني، فلِما أدَع الوضع الذي وصلتُ إليه يقضي عليَّ؟ لا! لن أستسلم!
خرَجتُ مِن المنزل في الصباح وأخذتُ أمشي بدون أن أعلم إلى أين أنا متجّهة. كنتُ قد أخَذتُ معي المال الذي تَرَكه لي جمال لأشتري بعض الحاجيات، وسرِرتُ عندما رأيتُ بلدة جميلة ودكّانة صغيرة تبيع الخضار والفواكه والمأكولات الأساسيّة. سألَني البائع مَن أكون فأجبتُه: "ضيفة جمال س." عندها قال لي:
ـ آه... ذلك الشاب المهذّب... كان يأتي إلى منزل جدّه في ما مضى... ولكنّ أبناء المدينة لا يُقدّرون ما يملكون... كم مِن الوقت ستمكثين هنا يا آنسة؟
ـ الوقت اللازم... أنا يتيمة واحترَقَ البيت الذي كنتُ أعيش فيه، فعرَضَ جمال عليّ المكوث في بيته... جمال هو صديق العائلة... هل مِن عمل هنا أقوم به مقابل أجرٍ؟
ـ البلدة صغيرة والأعمال قليلة... أنا آسف يا صغيرتي
عدتُ إلى البيت حزينة، بعدما أملتُ بإيجاد مورد رزق إلى حين أجد حلاً لوضعي مع زوجي.
ومرَّت الأيّام طويلة ومملّة، وأعترف أنّني كنتُ أتوقّع أن يرنّ الهاتف أو أن أسمع صوت سيّارة جمال، ولكنّ كان ذلك تمنّياً وليس أكثر.
كانت الليالي مخيفة، فكنتُ أوصد جميع الأبواب والشبابيك جيّدًا خاصّة بعد أن أصبح أهالي البلدة على علم بوجود صبيّة لوحدها في ذلك البيت القديم.
وعدتُ إلى البلدة لأصرف آخر ما تبقّى لي مِن مال على حاجيّات ضروريّة، ولأتكلّم مع مالك الدكّانة، أي الانسان الوحيد الذي عرفتُه منذ مجيئي إلى المنطقة. وكان ذلك الرجل الطيّب بانتظاري:
ـ كنتُ سأقصدكِ ولكنّني خفتُ أن تسيئي فهمي... لقد تغيّر الزمن... في ما مضى كانت العلاقات بين الناس أسهل... اليوم باتَ الكلّ يُفسّر الأمور ويُعطيها معانٍ ليس لها أي وجود... يا صغيرتي... هل تجيدين التعامل مع الصغار؟
ـ نعم... أقصد لا... ربما... لستُ أدري... لماذا تسأل؟
ـ يعني نعم... تجيدين التعامل مع الصغار وتحبّينهم كثيرًا... أليس كذلك؟
ـ أنا؟ أجل... ولكن...
ـ عظيم! لدَينا عائلة ميسورة هنا في البلدة... يأتي أفرادها إلى البلدة خلال الصيف، ثمّ يعودون إلى خلف الحدود.
ـ وما شأني أنا؟
ـ لقد كلّمتُهم عنكِ... هم يبحثون عن مربّية... أقصد أنّني أقنعتُهم بأن يفعلوا... هكذا ستتمكّنين مِن الرحيل بعيدًا.
ـ ماذا تقصد؟ بعيدًا عن ماذا أو مَن؟؟؟
ـ لا تخافي يا صغيرتي... لم يأتِ أحد للبحث عنكِ ولم أحاول معرفة شيء...
ـ كيف علِمتَ إذًا؟
ـ أنا رجل عجوز... رأيتُ وسمعتُ الكثير خلال حياتي، ففي البلدات الصغيرة تحصل أشياء كثيرة بالرّغم مِن محاولة الجميع ابقاءها سريّة... وأعرف عندما يكون الانسان يُخفي شيئًا... إمرأة شابة في بيت مهجور بالجبل وصاحب المكان لا يأتي ولا يسأل... مالكِ قليل وأكلكِ أقل... الخوف ظاهر في عَينَيكِ يا صغيرتي... وعليكِ أن تخافي فالناس لدَيها قلوب سوداء... ستعملين عند تلك العائلة وسترحلين معهم... إنّهم ناس طيّبون، أضمَن لكِ ذلك... وحتى موعد رحيلكِ ستمكثين في بيتي.
ـ في بيتكَ؟ لا! لا أستطيع...
ـ دعيني أكمل... في بيتي معي ومع زوجتي... أعلم أنّ الحياة لم تكن لطيفة معكِ ولكنّ الخير لا يزال موجودًا
أخَذَ هاتفه واتصل بزوجته التي جاءَت بعد دقائق وأخَذَتني معها.
في تلك الليلة بكيتُ كثيرًا... مِن كثر سعادتي. وفي اليوم التالي، أخَذَتني الزوجة إلى بيت تلك الأسرة حيث خضَعتُ لاستجواب بسيط بعد أن أعطاهم منقذي ضمانته.
ولم أخَف في حياتي بقدر ما خفتُ في الأسبوعَين اللذَين تليا، لأنّني توقّعتُ أن يجدَني زوجي أو أن يعود جمال ولا أتمكّن مِن السفر. ولكن لم يحدث شيء واستطَعتُ الرّحيل بسلام. لم أكن بحاجة إلى أوراقي كلّها فالتي كانت بحوزتي كانت كافية، خاصّة بعدما قلتُ للجميع إنّ بيتي احترق بأكمله. إضافة إلى ذلك، كان ربّ عملي الجديد رجلاً ثريًّا ولديه نفوذ، فلم يكن تمريري عبر الحدود صعبًا.
وجاء وقت توديع محسني وزوجته. تعانقنا مطوّلاً وبكينا كثيرًا، ووعدتُهما بأن أبقى على اتصال بهما.

وتغيّرَت حياتي كلّها فأصبحَت لديّ عائلة وعمل أحبّه. زِرتُ معهم شتّى البلدان وقضيتُ أجمل الأوقات. توفّيَ صاحب البقالة بعد خمس سنوات وزوجته بعده بسنة. كنتُ أبعث إليهما برسائل وهدايا باسم ربّة عملي كي لا يستطيع أحد الوصول إليّ، وتمنَّيتُ أن أزورهما يومًا ولكنّ القدر لم يشأ ذلك.
مضى على هروبي مِن زوجي عشر سنين ولم يُحاول بسّام أو جمال العثور عليّ. وبالطبع لم أتزوّج ولم أحاول حتى أن أحب، فكيف أفعل بعد الذي مرَرتُ به؟ صحيح أنّ حياتي تغيّرَت بفضل رجل عظيم، ولكنّه ابن زمَن كان يعلم معنى المروءة والشهامة.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات